الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَفَرْضٌ وَاجِبٌ لِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْ أَهْلِ التَّكْلِيفِ السَّبِيلَ إِلَى حَجِّ بَيْتِهِ الْحَرَامَ الْحَجَّ إِلَيْهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا مَضَى مَعْنَى {الْحَجَّ}، وَدَلَّلَنَا عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ مَعْنَاهُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: عَزَّ وَجَلَّ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وَمَا السَّبِيلُ الَّتِي يَجِبُ مَعَ اسْتِطَاعَتِهَا فَرْضُ الْحَجِّ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {مِنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ أَبِي جَنَابٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، وَالسَّبِيلُ أَنْ يَصِحَّ بَدَنُ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ لَهُ ثَمَنُ زَادٍ وَرَاحِلَةٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْحَفَ بِهِ. حَدَّثَنَا خَلَّادُ بْنُ أَسْلَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْرَائِيلُ، عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: سَأَلَتْ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ مَلَكَ ثَلَثِمَائَةَ دِرْهَمٍ فَهُوَ السَّبِيلُ إِلَيْهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عُثْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عَطَاءً يَقُولُ: السَّبِيلُ، الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّبِيلُ، رَاحِلَةٌ وَزَادٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى وَأَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سُوقَةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: {مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْآيَةَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَة). وَاعْتَلَ قَائِلُو هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِأَخْبَارٍ رَوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَحْوِ مَا قَالُوا فِي ذَلِكَ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ الْخُوزِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ يُحَدِّثُ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: {الزَّادُ وَالرَّاحِلَة}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ({مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: السَّبِيلُ إِلَى الْحَجِّ، الزَّادُ وَالرَّاحِلَة). حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ مَسْعَدَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ وَحَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ يُونُسَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ. “الزَّادُ وَالرَّاحِلَة). حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَانَ الْمُقَدَّمِيُّ وَالْمُثْنِي بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَا حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مِنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَلَمْ يَحُجْ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} الْآيَة). حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (بَلَغَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ قَائِلٌ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَة). حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ التِّرْمِذِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا شَاذُّ بْنُ فَيَّاضٍ الْبَصْرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هِلَالُ أَبُو هَاشِمٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مِنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً فَلَمْ يَحُجْ مَاتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} الْآيَة). حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ وَحُمَيدٌ، عَنِ الْحَسَنِ، (أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ إِلَيْهِ؟ قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَة). حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: السَّبِيلُ الَّتِي إِذَا اسْتَطَاعَهَا الْمَرْءُ كَانَ عَلَيْهِ الْحَجُّ: الطَّاقَةُ لِلْوُصُولِ إِلَيْهِ. قَالُوا: وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَشْي وَبِالرُّكُوبِ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ وُجُودِهِمَا الْعَجْزُ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِ: بِامْتِنَاعِ الطَّرِيقِ مِنَ الْعَدُوِّ الْحَائِلِ، وَبِقِلَّةِ الْمَاءِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. قَالُوا: فَلَا بَيَانَ فِي ذَلِكَ أَبْيَنُ مِمَّا بَيَّنَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، بِأَنْ يَكُونَ مُسْتَطِيعًا إِلَيْهِ السَّبِيلُ، وَذَلِكَ: الْوُصُولُ إِلَيْهِ بِغَيْرٍ مَانِعٍ وَلَا حَائِلٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَذَلِكَ قَدْ يَكُونُ بِالْمَشْي وَحْدَهُ وَإِنْ أَعْوَزَهُ الْمُرْكَبُ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْمَرْكَبِ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنْ رَجُلٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ قَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} قَالَ: عَلَى قَدْرِ الْقُوَّةِ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ، فَإِنْ كَانَ شَابًّا صَحِيحًا لَيْسَ لَهُ مَالٌ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ بِأَكْلِهِ وَغُفَّتِهِ حَتَّى يَقْضِيَ حِجَّتَهُ بِهِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: كَلَّفَ اللَّهُ النَّاسَ أَنْ يَمْشُوا إِلَى الْبَيْتِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَنَّ لِبَعْضِهِمْ مِيرَاثًا بِمَكَّةَ، أَكَانَ تَارِكَهُ؟ وَاللَّهُ لَانْطَلَقَ إِلَيْهِ وَلَوْ حَبْوًا!! كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ عَطَاءٌ: مَنْ وَجَدَ شَيْئًا يُبَلِّغُهُ، فَقَدْ وَجَدَ سَبِيلًا كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: . {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَانِئٍ قَالَ: سُئِلَ عَامِرٌ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}؟ قَالَ: السَّبِيلُ، مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عبَّادُ، عَنِ الْحَسَنِ: مَنْ وَجَدَ شَيْئًا يُبْلِغُهُ فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَقَالَ آخَرُونَ: السَّبِيلُ إِلَى ذَلِكَ: الصِّحَّةُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيدٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ وَالْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالُوا، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمُقْرِئُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ وَابْنُ لَهِيعَةَ قَالَا أَخْبَرَنَا شُرَحْبِيلُ بْنُ شَرِيكٍ الْمَعَافِرَيُّ: أَنَّهُ سَمِعَ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: السَّبِيلُ الصِّحَّةُ. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: مَنْ وَجَدَ قُوَّةً فِي النَّفَقَةِ وَالْجَسَدِ وَالْحُمْلَانِ. قَالَ: وَإِنْ كَانَ فِي جَسَدِهِ مَا لَا يَسْتَطِيعُ الْحَجَّ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ قُوَّةً فِي مَالٍ، كَمَا إِذَا كَانَ صَحِيحَ الْجَسَدِ وَلَا يَجِدُ مَالًا وَلَا قُوَّةَ، يَقُولُونَ: لَا يُكَلَّفُ أَنْ يَمْشِيَ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ، قَوْلُ مَنْ قَالَ بِقَوْلِ ابْنِ الزُّبَيْرِ وَعَطَاءٍ: إِنَّ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ. لِأَنَّ “السَّبِيلَ “ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الطَّرِيقُ، فَمَنْ كَانَ وَاجِدًا طَرِيقًا إِلَى الْحَجِّ لَا مَانِعَ لَهُ مِنْهُ مِنْ زَمَانَةٍ، أَوْ عَجْزٍ، أَوْ عَدُوٍّ، أَوْ قِلَّةِ مَاءٍ فِي طَرِيقِهِ، أَوْ زَادٍ، أَوْ ضَعْفٍ عَنِ الْمَشْيِ، فَعَلَيْهِ فَرْضُ الْحَجِّ، لَا يَجْزِيهِ إِلَّا أَدَاؤُهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِدًا سَبِيلًا أَعْنِي بِذَلِكَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُطِيقًا الْحَجَّ، بِتَعَذُّرِ بَعْضِ هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي وَصَفْنَاهَا عَلَيْهِ فَهُوَ مِمَّنْ لَا يَجِدُ إِلَيْهِ طَرِيقًا وَلَا يَسْتَطِيعُهُ. لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ إِلَى ذَلِكَ، هُوَ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْهُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ الَّتِي ذَكَرْنَا أَوْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ غَيْرُ مُطِيقٍ وَلَا مُسْتَطِيعٍ إِلَيْهِ السَّبِيلَ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: هَذِهِ الْمَقَالَةُ أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِمَّا خَالَفَهَا، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَخَصِّصْ، إِذْ أَلْزَمَ النَّاسَ فَرْضَ الْحَجِّ، بَعْضُ مُسْتَطِيعِي السَّبِيلِ إِلَيْهِ بِسُقُوطِ فَرْضٍ ذَلِكَ عَنْهُ. فَذَلِكَ عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ إِلَيْهِ سَبِيلًا بِعُمُومِ الْآيَةِ. فَأَمَّا الْأَخْبَارُ الَّتِي رُوِيَتْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ: (الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ)، فَإِنَّهَا أَخْبَارٌ: فِي أَسَانِيدِهَا نَظَرٌ، لَا يَجُوزُ الِاحْتِجَاجُ بِمِثْلِهَا فِي الدِّينِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَاخْتَلَفَ الْقَرَأَةُ فِي قِرَاءَةِ “الْحَجِّ “. فَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنْ قَرَأَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْعِرَاقِ بِالْكَسْرِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}. وَقَرَأَ ذَلِكَ جَمَاعَةٌ أُخَرُ مِنْهُمْ بِالْفَتْحِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ}. وَهْمًا لُغَتَانِ مَعْرُوفَتَانِ لِلْعَرَبِ، فَالْكَسْرُ لُغَةُ أَهْلِ نَجْدٍ، وَالْفَتْحُ لُغَةُ أَهْلِ الْعَالِيَةِ. وَلَمْ نَرَ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ ادَّعَى فَرْقًا بَيْنَهُمَا فِي مَعْنَى وَلَا غَيْرَهُ، غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا مِنِ اخْتِلَافِ اللُّغَتَيْنِ؛ إِلَّا مَا: حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيِّ قَالَ: قَالَ حُسَيْنٌ الْجُعْفِيُّ “الْحَجُّ “. مَفْتُوحٌ، اسْمٌ، “وَالْحِجُّ “ مَكْسُورٌ، عَمِلٌ. وَهَذَا قَوْلٌ لَمْ أَرَ أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ وَمَعَانِي كَلَامِهِمْ يُعَرِّفُونَهُ، بَلْ رَأَيْتُهُمْ مَجْمَعَيْنِ عَلَى مَا وَصَفَتْ، مِنْ أَنَّهُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنَى وَاحِدٍ. وَالَّذِي نَقُولُ بِهِ فِي قِرَاءَةٍ ذَلِكَ: أَنَّ الْقِرَاءَتَيْنِ إِذْ كَانَتَا مُسْتَفِيضَتَيْنِ فِي قِرَاءَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَلَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمَا فِي مَعْنَى وَلَا غَيْرِهِ فَهُمَا قِرَاءَتَانِ قَدْ جَاءَتَا مَجِيءَ الْحُجَّةِ، فَبِأَيِّ الْقِرَاءَتَيْنِ-أَعْنِي: بِكَسْرِ “الْحَاءِ “ مِنْ “الْحَجِّ “ أَوْ فَتْحِهَا- قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ الصَّوَابَ فِي قِرَاءَتِهِ. وَأَمَّا “مَنْ “ الَّتِي مَعَ قَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ}، فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعِ خَفْضٍ عَلَى الْإِبْدَالِ مِنْ “النَّاسِ “. لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلِلَّهِ عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ مِنَ النَّاسِ سَبِيلًا إِلَى حَجِّ الْبَيْتِ، حَجُّهُ. فَلَمَّا تُقَدِّمْ ذِكْرُ “النَّاسِ “ قَبْلَ “مَنْ“، بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، الَّذِي عَلَيْهِ فُرِضَ ذَلِكَ مِنْهُمْ. لِأَنَّ فَرَضَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ دُونَ جَمِيعِهِمْ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [97] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَمَنْجَحَدَ مَا أَلْزَمَهُ اللَّهُ مِنْ فَرْضِ حَجِّ بَيْتِهِ، فَأَنْكَرَهُ وَكَفَرَ بِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ حَجِّهِ وَعَمَلِهِ، وَعَنْ سَائِرِ خَلْقِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي الْمَجَالِدِ قَالَ: سَمِعْتُ مِقْسَمًا، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ، عَنْ عَطَاءٍ وَجُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قَالَا مَنْ جَحَدَ الْحَجَّ وَكَفَرَ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ، عَنْ عَطَاءٍ قَالَ: مَنْ جَحَدَ بِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِمْرَانُ الْقَطَّانُ، يَقُولُ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْحَجَّ لَيْسَ عَلَيْهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ، عَنْ عبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: مَنْ أَنْكَرَهُ، وَلَا يَرَى أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَقًّا، فَذَلِكَ كُفْرٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِي بِشْرٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ، كَفَرَ بِاللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يُعْلَى بْنُ أَسَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حَسَّانَ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ لَمْ يَرَهُ عَلَيْهِ وَاجِبًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: بِالْحَجِّ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: (أَنْ لَا يَكُونُ مُعْتَقِدًا فِي حَجِّهِ أَنَّ لَهُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ، وَلَا أَنَّ عَلَيْهِ بِتَرْكِهِ إِثْمًا وَلَا عُقُوبَةً).
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيجٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: هُوَ مَا إِنْ حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا، وَإِنْ قَعَدَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا. حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هُوَ مَا إِنْ حَجَّ لَمْ يَرَهُ بِرًّا، وَإِنْ قَعَدَ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فِطْرٌ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ نُفَيعٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ({وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيلٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ تَرَكَهُ كَفَرَ؟ قَالَ: مَنْ تَرَكَهُ وَلَا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، وَمَنْ حَجَّ وَلَا يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَاك). حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، يَقُولُ: مَنْ كَفَرَ بِالْحَجِّ، فَلَمْ يَرَ حَجَّهُ بِرًّا، وَلَا تَرْكَهُ مَأْثَمًا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، مَا هَذَا الْكُفْرُ؟ قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، قَالَ: (لَمَّا نَـزَلَتْ آيَةُ الْحَجِّ، جَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْلَ الْأَدْيَانِ كُلَّهُمْ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ كَتَبَ عَلَيْكُمُ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَآمَنَتْ بِهِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ مَنْ صَدَّقَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَآمَنَ بِهِ، وَكَفَرَتْ بِهِ خَمْسُ مِلَلٍ، قَالُوا: لَا نُؤْمِنُ بِهِ، وَلَا نُصَلِّي إِلَيْهِ، وَلَا نَسْتَقْبِلُهُ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَانِئٍ قَالَ: سُئِلَ عَامِرٌ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ مِنَ الْخَلْقِ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: ({وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر). حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ({وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 85]، فَقَالَتِ الْمَلَلُ: نَحْنُ مُسْلِمُونَ! فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فَحَجَّ الْمُؤْمِنُونَ، وَقَعَدَ الْكُفَّارُ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: وَمَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي فِي مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، فَقَرَأَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا}، فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، لَيْسَ كَمَا يَقُولُونَ: (إِذَا لَمْ يَحُجْ وَكَانَ غَنِيًّا وَكَانَتْ لَهُ قُوَّةٌ)، فَقَدْ كَفَرَ بِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: فَإِنَّا نَكْفُرُ بِهَا وَلَا نَفْعَلُ! فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ الضَّرِيرُ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي بَقِيَّةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، قَالَ: مَنْ كَفَرَ بِالْبَيْتِ. وَقَالَ آخَرُونَ: كُفْرُهُ بِهِ: تَرْكُهُ إِيَّاهُ حَتَّى يَمُوتَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا {مَنْ كَفَرَ}، فَمَنْ وَجَدَ مَا يَحُجُّ بِهِ ثُمَّ لَا يَحُجُ، فَهُوَ كَافِرٌ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: (مَعْنَى {وَمَنْ كَفَرَ}، وَمَنْ جَحَدَ فَرْضَ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ وُجُوبَهُ، فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْهُ وَعَنْ حَجِّهِ وَعَنِ الْعَالَمِينَ جَمِيعًا). وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى بِهِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: {وَمَنْ كَفَرَ} بِعَقِبِ قَوْلِهِ: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}، بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ الْكَافِرِ بِالْحَجِّ، أَحَقُّ مِنْهُ بِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنْ غَيْرِهِ، مَعَ أَنَّ الْكَافِرَ بِفَرْضِ الْحَجِّ عَلَى مَنْ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، بِاللَّهِ كَافِرٌ وَأَنَّ “الْكُفْرَ “ أَصْلُهُ الْجُحُودُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ جَاحِدًا وَلِفَرْضِهِ مُنْكِرًا، فَلَا شَكَّ إِنْ حَجَّ لَمْ يَرْجُ بِحَجِّهِ بِرًّا، وَإِنْ تَرَكَهُ فَلَمْ يَحُجْ لَمْ يَرَهُ مَأْثَمًا. فَهَذِهِ التَّأْوِيلَاتُ، وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْعِبَارَاتُ بِهَا، فَمُتَقَارِبَاتُ الْمَعَانِي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} [98] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ مَنْ يَنْتَحِلُ الدِّيَانَةَ بِمَا أَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ كُتُبِهِ، مِمَّنْ كَفَرَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَحَدَ نُبُوَّتَهُ: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، يَقُولُ: لِمَ تَجْحَدُونُ حُجَجَ اللَّهِ الَّتِي آتَاهَا مُحَمَّدًا فِي كُتُبِكُمْ وَغَيْرِهَا، الَّتِي قَدْ ثَبَتَتْ عَلَيْكُمْ بِصِدْقِهِ وَنُبُوَّتِهِ وَحُجَّتِهِ. وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ: يَقُولُ: لِمَ تَجْحَدُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِ، وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ صِدْقَهُ؟ فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ مُتَعَمِّدُونَ الْكُفْرَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ، وَمَعْرِفَةٍ مِنْ كُفْرِهِمْ، وَقَدْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ}، أَمَّا {آيَاتُ اللَّهِ}، فَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ}، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُوَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [99] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ التَّصْدِيقَ بِكُتُبِ اللَّهِ: {لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: لِمَ تَضِلُّونَ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ وَمَحَجَّتِهِ الَّتِي شَرَعَهَا لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ {مَنْ آمَنَ}، يَقُولُ: مَنْ صَدَّقَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}، يَعْنِي: تَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا. “وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ “ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ: (تَبْغُونَهَا “ عَائِدَتَانِ عَلَى “السَّبِيلِ)، وَأَنَّثَهَا لِتَأْنِيثِ “السَّبِيلِ “. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (تَبْغُونَ لَهَا عِوَجًا)، مِنْ قَوْلِ الشَّاعِرِ، وَهُوَ سُحَيمٌ عَبْدُ بَنِي الْحَسْحَاسِ بَغَـاكَ، وَمَا تَبْغِيـهِ حَتَّى وَجَدْتَـهُ *** كَـأَنَّكَ قَدْ وَاعَدْتَـهُ أَمْسِ مَوْعِـدَا يَعْنِي: طَلَبَكَ وَمَا تَطْلُبُهُ. يُقَالُ: (ابْغِنِي كَذَا)، يُرَادُ: ابْتَغِهِ لِي. فَإِذَا أَرَادُوا أَعِنِّي عَلَى طَلَبِهِ وَابْتَغِهِ مَعِي قَالُوا: (أَبْغِنِي) بِفَتْحِ الْأَلِفِ. وَكَذَلِكَ يُقَالُ: (احْلُبْنِي)، بِمَعْنَى: اكْفِنِي الْحَلْبَ- “وَأَحْلِبْنِي “ أَعْنِي عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ جَمِيعِ مَا وَرَدَ مِنْ هَذَا النَّوْعِ، فَعَلَى هَذَا. وَأَمَّا “الْعِوَجُ “ فَهُوَ الْأَوَدُ وَالْمَيْلُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ: الضَّلَالُ عَنِ الْهُدَى. يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ دِينِ اللَّهِ مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ تَبْغُونَ دِينَ اللَّهِ اعْوِجَاجًا عَنْ سُنَنِهِ وَاسْتِقَامَتِهِ؟ وَخَرَجَ الْكَلَامُ عَلَى (السَّبِيلِ)، وَالْمَعْنَى لِأَهْلِهِ. كَأَنَّ الْمَعْنَى: تَبْغُونَ لِأَهْلِ دِينِ اللَّهِ، وَلِمَنْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ الْحَقِّ، عِوَجًا يَقُولُ: ضَلَالًا عَنِ الْحَقِّ، وَزَيْغًا عَنِ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى الْهُدَى وَالْمَحَجَّةِ. “وَالْعِوَجُ “ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ: الْأَوَدُ فِي الدِّينِ وَالْكَلَامِ. “وَالْعَوَجُ “ بِفَتْحِ أَوَّلِهِ: الْمَيْلُ فِي الْحَائِطِ وَالْقَنَاةِ وَكُلِّ شَيْءٍ مُنْتَصِبٍ قَائِمٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ}. فَإِنَّهُ يَعْنِي: شُهَدَاءُ عَلَى أَنَّ الَّذِي تَصُدُّونَ عَنْهُ مِنَ السَّبِيلِ حَقٌّ، تَعْلَمُونَهُ وَتَجِدُونَهُ فِي كُتُبِكُمْ {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، يَقُولُ: لَيْسَ اللَّهُ بِغَافِلٍ عَنْ أَعْمَالِكُمُ الَّتِي تَعْمَلُونَهَا مِمَّا لَا يَرْضَاهُ لِعِبَادِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، حَتَّى يُعَاجِلَكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَيْهَا مُعَجَّلَةٌ، أَوْ يُؤَخِّرَ ذَلِكَ لَكُمْ حَتَّى تَلْقَوْهُ فَيُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا. وَقَدْ ذَكَرَ أَنَّ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} وَالْآيَاتُ بَعْدَهُمَا إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، نَـزَلَتْ فِي رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ حَاوَلَ الْإِغْرَاءَ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لِيُرَاجِعُوا مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ. فَعَنَّفَهُ اللَّهُ بِفِعْلِهِ ذَلِكَ، وَقَبَّحَ لَهُ مَا فَعَلَ وَوَبَّخَهُ عَلَيْهِ، وَوَعَظَ أَيْضًا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَنَهَاهُمْ عَنِ الِافْتِرَاقِ وَالِاخْتِلَافِ، وَأَمَرَهُمْ بِالِاجْتِمَاعِ وَالِائْتِلَافِ. ذِكْرُ الرِّوَايَةِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، قَالَ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: مَرَّ شَأْسُ بْنُ قَيْسٍ وَكَانَ شَيْخًا قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، عَظِيمَ الْكُفْرِ، شَدِيدَ الضِّغْنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، شَدِيدَ الْحَسَدِ لَهُمْ عَلَى نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، فِي مَجْلِسٍ قَدْ جَمَعَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ فِيهِ. فَغَاظَهُ مَا رَأَى مِنْ جَمَاعَتِهِمْ وَأُلْفَتِهِمْ وَصَلَاحِ ذَاتِ بَيْنِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، بَعْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ: قَدِ اجْتَمَعَ مَلَأُ بَنِي قَيْلَةَ بِهَذِهِ الْبِلَادِ! لَا وَاللَّهِ مَا لَنَا مَعَهُمْ، إِذَا اجْتَمَعَ مَلَأَهُمْ بِهَا، مِنْ قَرَارٍ! فَأَمَرَ فَتًى شَابًّا مِنْ يَهُودَ وَكَانَ مَعَهُ، فَقَالَ: اعْمَدْ إِلَيْهِمْ، فَاجْلِسْ مَعَهُمْ، وَذَكِّرْهُمْ يَوْمَ بِعَاثٍّ وَمَا كَانَ قَبْلَهُ، وَأَنْشِدْهُمْ بَعْضَ مَا كَانُوا تُقَاوَلُوا فِيهِ مِنَ الْأَشْعَارِ وَكَانَ يَوْمُ بُعَاثٍ يَوْمًا اقْتَتَلَتْ فِيهِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ الظَّفَرُ فِيهِ لِلْأَوْسِ عَلَى الْخَزْرَجِ فَفَعَلَ. فَتَكَلَّمَ الْقَوْمُ عِنْدَ ذَلِكَ فَتُنَازِعُوا وَتُفَاخِرُوا، حَتَّى تَوَاثَبَ رَجُلَانِ مِنَ الْحَيَّيْنِ عَلَى الرُّكَبِ: أَوْسُ بْنُ قَيْظِيِّ، أَحَدُ بَنِي حَارِثَةَ بْنِ الْحَارِثِ مِنَ الْأَوْسِ- وَجَبَّارُ بْنُ صَخْرٍ، أَحَدُ بَنِي سَلَمَةَ مِنَ الْخَزْرَجِ. فَتُقَاوِلَا ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: إِنْ شِئْتُمْ وَاللَّهِ رَدَدْنَاهَا الْآنَ جَذَعَةً! وَغَضِبَ الْفَرِيقَانِ، وَقَالُوا: قَدْ فَعَلْنَا، السِّلَاحَ السِّلَاحَ!! مَوْعِدُكُمُ الظَّاهِرَةُ وَالظَّاهِرَةُ: الْحَرَّةُ فَخَرَجُوا إِلَيْهَا. وَتَحَاوَزَ النَّاسُ. فَانْضَمَّتْ الْأَوْسُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَالْخَزْرَجُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، عَلَى دَعْوَاهُمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَيَمُنُّ مَعَهُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى جَاءَهُمْ، فَقَالَ: (يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللَّهَ اللَّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ إِذْ هَدَاكُمُ اللَّهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، تَرْجِعُونَ إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ كُفَّارًا؟ فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهَا نَـزْغَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكَيْدٌ مَنْ عَدُّوهِمْ، فَأَلْقَوُا السِّلَاحَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَبَكَوْا، وَعَانَقَ الرِّجَالُ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، ثُمَّ انْصَرَفُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَامِعِينَ مُطِيعِينَ، قَدْ أَطْفَأَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَيَدَ عَدُوِ اللَّهِ شَأْسُ بْنُ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ. فَأَنْـزَلَ اللَّهُ فِي شَأْسِ بْنِ قَيْسٍ وَمَا صَنَعَ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا} الْآيَةَ. وَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي أَوْسِ بْنِ قَيْظِيِّ وَجَبَّارِ بْنِ صَخْرٍ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمَا مِنْ قَوْمِهِمَا الَّذِينَ صَنَعُوا مَا صَنَعُوا عَمَّا أَدْخَلَ عَلَيْهِمْ شَأْسُ بْنُ قَيْسٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. وَقِيلَ: إِنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، جَمَاعَةَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا بَيْنَ أَظْهُرِ مَدِينَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ نَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ، وَالنَّصَارَى وَأَنَّ صَدَّهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَانَ بِإِخْبَارِهِمْ مَنْ سَأَلَهُمُ عَنْ أَمْرِ نَبِيِّ اللَّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ يَجِدُونَ ذِكْرَهُ فِي كُتُبِهِمْ؟. أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ نَعْتَهُ فِي كُتُبِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا}، كَانُوا إِذَا سَأَلَهُمْ أَحَدٌ: هَلْ تَجِدُونَ مُحَمَّدًا؟ قَالُوا: لَا! فَصَدُّوا عَنْهُ النَّاسَ، وَبَغَوْا مُحَمَّدًا عِوَجًا: هَلَاكًا. حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، يَقُولُ: لِمَ تَصُدُّونَ عَنِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ نَبِيِّ اللَّهِ، مِنْ آمَنَ بِاللَّهِ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ فِيمَا تَقْرَأُونَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ اللَّهِ الَّذِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهُ وَلَا يُجْزَى إِلَّا بِهِ، تَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَكُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}، قَالَ: هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، نَهَاهُمْ أَنْ يَصُدُّوا الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَعْدِلُوا النَّاسَ إِلَى الضَّلَالَةِ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ السُّدِّيُّ: يَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ مُحَمَّدٍ، وَتَمْنَعُونَ مِنِ اتِّبَاعِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ، بِكِتْمَانِكُمْ صِفَتَهُ الَّتِي تَجِدُونَهَا فِي كُتُبِكُمْ؟. وَ“مُحَمَّدٌ “ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: هُوَ (السَّبِيلُ)، {تَبْغُونَهَا عِوَجًا}، تَبْغُونَ مُحَمَّدًا هَلَاكًا. وَأَمَّا سَائِرُ الرِّوَايَاتِ غَيْرُهُ وَالْأَقْوَالُ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ نَحْوُ التَّأْوِيلِ الَّذِي بَيَّنَاهُ قَبْلُ: مِنْ أَنَّ مَعْنَى “السَّبِيلِ “ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ: الْإِسْلَامُ، وَمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ مِنَ الْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [100] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى بِذَلِكَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، الْأَوْسَ وَالْخَزْرَجَ، وَبـِ {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، شَأْسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ، عَلَى مَا قَدْ ذَكَرْنَا قَبْلُ مِنْ خَبَرِهِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ. وَقَالَ آخَرُونَ، فَيَمُنُّ عُنِيَ بِالَّذِينِ آمَنُوا، مِثْلَ قَوْلٍ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ غَيْرَ أَنَّهُمْ قَالُوا: الَّذِي جَرَى الْكَلَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْصَارِ حَتَّى هَمُّوا بِالْقِتَالِ وَوَجَدَ الْيَهُودِيُّ بِهِ مَغْمَزًا فِيهِمْ: ثَعْلَبَةُ بْنُ عَنَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، قَالَ: نَـزَلَتْ فِي ثَعْلَبَةَ بْنِ عَنْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ، كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُنَاسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ كَلَامٌ، فَمَشَى بَيْنَهُمْ يَهُودِيٌّ مِنْ قَيْنُقَاعَ، فَحَمَلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى هَمَّتِ الطَّائِفَتَانِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ أَنْ يَحْمِلُوا السِّلَاحَ فَيُقَاتِلُوا، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، يَقُولُ: إِنْ حَمَلْتُمِ السِّلَاحَ فَاقْتَتَلْتُمْ، كَفَرْتُمْ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ حُمَيدٍ الْأَعْرَجِ، عَنْ مُجَاهِدٍ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}، قَالَ: كَانَ جِمَاعُ قَبَائِلُ الْأَنْصَارِ بِطُنَّيْنِ: الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَرْبٌ وَدِمَاءٌ وَشَنَآنٌ، حَتَّى مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِالْإِسْلَامِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَطْفَأَ اللَّهُ الْحَرْبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِالْإِسْلَامِ. قَالَ: فَبَيَّنَّا رَجُلٌ مِنَ الْأَوْسِ وَرَجُلٌ مِنَ الْخَزْرَجِ قَاعِدَانِ يَتَحَدَّثَانِ، وَمَعَهُمَا يَهُودِيٌّ جَالِسٌ، فَلَمْ يَزَلْ يُذَكِّرُهُمَا أَيَّامَهُمَا وَالْعَدَاوَةَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، حَتَّى اسْتَبَّا ثُمَّ اقْتَتَلَا. قَالَ: فَنَادَى هَذَا قَوْمَهُ وَهَذَا قَوْمَهُ، فَخَرَجُوا بِالسِّلَاحِ، وَصَفَّ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ. قَالَ: وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاهِدٌ يَوْمَئِذٍ بِالْمَدِينَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَزَلْ يَمْشِي بَيْنَهُمْ إِلَى هَؤُلَاءِ وَإِلَى هَؤُلَاءِ لِيُسَكِّنَهُمْ، حَتَّى رَجَعُوا وَوَضَعُوا السِّلَاحَ، فَأَنْـزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْقُرْآنَ فِي ذَلِكَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} إِلَى قَوْلِهِ: (عَذَابٌ عَظِيمٌ). قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَأَقَرُّوا بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ نَبِيُّهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، إِنْ تُطِيعُوا جَمَاعَةً مِمَّنْ يَنْتَحِلُ الْكِتَابَ مِنْ أَهْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَتَقْبَلُوا مِنْهُمْ مَا يَأْمُرُونَكُمْ بِهِ، يُضِلُّوكُمْ فَيَرُدُّوكُمْ بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ رَسُولَ رَبِّكُمْ، وَبَعْدَ إِقْرَارِكُمْ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ، كَافِرِينَ يَقُولُ: جَاحِدِينَ لِمَا قَدْ آمَنْتُمْ بِهِ وَصَدَّقْتُمُوهُ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَكُمْ مِنْ عِنْدِ رَبِّكُمْ. فَنَهَاهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أَنْ يَنْتَصِحُوهُمْ، وَيَقْبَلُوا مِنْهُمْ رَأْيًا أَوْ مَشُورَةً، وَيُعَلِّمُهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّهُمْ لَهُمْ مُنْطَوُونَ عَلَى غِلٍّ وَغِشٍّ وَحَسَدٍ وَبُغْضٍ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُعَاذٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}، قَدْ تَقَدَّمَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ فِيهِمْ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَحَذَّرَكُمْ وَأَنْبَأَكُمْ بِضَلَالَتِهِمْ، فَلَا تَأْتَمِنُوهُمْ عَلَى دَيْنِكُمْ، وَلَا تَنْتَصِحُوهُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، فَإِنَّهُمُ الْأَعْدَاءُ الْحَسَدَةُ الضُّلَّالُ. كَيْفَ تَأْتَمِنُونَ قَوْمًا كَفَرُوا بِكِتَابِهِمْ، وَقَتَلُوا رُسُلَهُمْ، وَتَحَيَّرُوا فِي دِينِهِمْ، وَعَجَزُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ؟ أُولَئِكَ وَاللَّهِ هُمْ أَهْلُ التُّهَمَةِ وَالْعَدَاوَةِ ! حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، مِثْلَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُوَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [101] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ}، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ، فَتَرْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ {وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}، يَعْنِي: حُجَجُ اللَّهِ عَلَيْكُمُ الَّتِي أَنْـزَلَهَا فِي كِتَابِهِ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} حُجَّةٌ أُخْرَى عَلَيْكُمْ لِلَّهِ، مَعَ آيِ كِتَابِهِ، يَدْعُوكُمْ جَمِيعُ ذَلِكَ إِلَى الْحَقِّ، وَيُبَصِّرُكُمُ الْهُدَى وَالرَّشَادَ، وَيَنْهَاكُمْ عَنِ الْغَيِّ وَالضَّلَالِ؟. يَقُولُ لَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَمَا وَجْهُ عُذْرِكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ فِي جُحُودِكُمْ نُبُوَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَارْتِدَادِكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ، وَرُجُوعِكُمْ إِلَى أَمْرِ جَاهِلِيَّتِكُمْ، إِنْ أَنْتُمْ رَاجَعْتُمْ ذَلِكَ وَكَفَرْتُمْ، وَفِيهِ هَذِهِ الْحُجَجُ الْوَاضِحَةُ وَالْآيَاتُ الْبَيِّنَةُ عَلَى خَطَأِ فِعْلِكُمْ ذَلِكَ إِنْ فَعُلْتُمُوهُ؟ كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} الْآيَةَ، عَلَمَانِ بَيِّنَانِ: وُجْدَانُ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكِتَابُ اللَّهِ. فَأَمَّا نَبِيُّ اللَّهِ فَمَضَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَمَّا كِتَابُ اللَّهِ، فَأَبْقَاهُ اللَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِكِمْ رَحْمَةً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةٍ، فِيهِ حَلَالُهُ وَحَرَامُهُ، وَطَاعَتُهُ وَمَعْصِيَتُهُ. وَأَمَّاقَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: وَمَنْ يَتَعَلَّقُ بِأَسْبَابِ اللَّهِ، وَيَتَمَسَّكُ بِدِينِهِ وَطَاعَتِهِ (فَقَدْ هَدَى)، يَقُولُ: فَقَدْ وُفِّقَ لِطَرِيقٍ وَاضِحٍ، وَمَحَجَّةٍ مُسْتَقِيمَةٍ غَيْرَ مُعْوَجَّةٍ، فَيَسْتَقِيمُ بِهِ إِلَى رِضَى اللَّهِ، وَإِلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَالْفَوْزِ بِجَنَّتِهِ، كَمَا: حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، قَوْلُهُ: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ} قَالَ: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ. وَأَصْلُ “الْعَصْمِ “ الْمَنْعُ، فَكُلُّ مَانِعِ شَيْئًا فَهُوَ (عَاصِمُهُ)، وَالْمُمْتَنِعُ بِهِ (مُعْتَصِمٌ بِهِ)، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ: أَنَـا ابْـنُ الْعَـاصِمِينَ بَنِـي تَمِيـمٍ *** إِذَا مَـا أَعْظَـمُ الْحَدَثَـانِ نَابَـا وَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْحَبْلِ (عِصَامٌ)، وَلِلسَّبَبِ الَّذِي يَتَسَبَّبُ بِهِ الرَّجُلُ إِلَى حَاجَتِهِ (عِصَامٌ)، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: إِلَـى الْمَـرْءِ قَيْسٍ أُطِيـلُ السُّـرَى *** وَآخُـذُ مِـنْ كُـلِّ حَـيٍّ عُصُـمْ يَعْنِي بِـ “الْعُصُمْ “ الْأَسْبَابَ، أَسْبَابَ الذِّمَّةِ وَالْأَمَانِ. يُقَالُ مِنْهُ: (اعْتَصَمْتُ بِحَبْلٍ مِنْ فُلَانٍ) وَ(اعْتَصَمْتُ حَبْلًا مِنْهُ) وَ(اعْتَصَمْتُ بِهِ وَاعْتَصَمْتُهُ)، وَأَفْصَحُ اللُّغَتَيْنِ إِدْخَالُ “الْبَاءِ)، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، وَقَدْ جَاءَ: (اعْتَصَمْتُهُ)، كَمَا الشَّاعِرُ: إِذَا أَنْـتَ جَـازَيْتَ الْإِخَـاءَ بِمِثْلِـهِ *** وَآسَـيْتَنِي، ثُـمَّ اعْتَصَمْـتَ حِبَالِيَـا فَقَالَ: (اعْتَصَمَتْ حِبَالِيَا)، وَلَمْ يُدْخِلْ “الْبَاءَ “. وَذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِهِمْ: (تَنَاوَلَتُ الْخِطَامَ، وَتَنَاوَلَتُ بِالْخِطَامِ)، وَ (تَعَلَّقَتُ بِهِ وَتَعَلَّقْتُهُ)، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ: تَعَلَّقَـتْ هِنْـدًا نَاشِـئًا ذَاتَ مِـئْزَرٍ *** وَأَنْـتَ وَقَـدَ قَـارَفْتَ، لَمْ تَدْرِ مَا الْحِلْمُ وَقَدْ بَيَّنْتُ مَعْنَى (الْهُدَى)، (وَالصِّرَاطِ)، وَأَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ الْإِسْلَامُ، فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ، فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ الَّذِي نَـزَلَ فِي سَبَبِ تَحَاوُزِ الْقَبِيلَينِ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، كَانَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ}.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَطِيَّةَ قَالَ: حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنِ الْأَغَرِّ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ خَلِيفَةَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ بَيْنَهُمْ حَرْبٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كُلُّ شَهْرٍ، فَبَيْنَمَا هُمْ جُلُوسٌ إِذْ ذَكَّرُوا مَا كَانَ بَيْنَهُمْ حَتَّى غَضِبُوا، فَقَامَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ بِالسِّلَاحِ، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} إِلَى آخَرَ الْآيَتَيْنِ، {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [102] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: يَا مَعْشَرَ مَنْ صَدَّقَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ {اتَّقُوا اللَّهَ}، خَافُوا اللَّهَ وَرَاقَبُوهُ بِطَاعَتِهِ وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ {حَقَ تُقَاتِهِ}، حَقُّ خَوْفِهِ، وَهُوَ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى {وَلَا تَمُوتُنَّ}، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ {إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لِرَبِّكُمْ، مُذْعِنُونَ لَهُ بِالطَّاعَةِ. مُخْلِصُونَ لَهُ الْأُلُوهَةَ وَالْعِبَادَةَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ وَحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصِي، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ زُبَيْدِ، عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَأَبُو السَّائِبِ قَالَا حَدَّثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ بْنِ شَرَاحِيلٍ الْبَكِيلِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنْ زُبَيْدٍ الْأَيَّامِيِّ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ زُبَيْدٍ، عَنْ مُرَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، مِثْلَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ إِسْرَائِيلَ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ، نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو ابْنُ مُرَّةَ، عَنْ مُرَّةَ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيمٍ قَالَ: أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيُّ يُحَدِّثُ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ خُثَيمٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، فَذَكَرَهُ نَحْوَهُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} قَالَ (حَقُّ تُقَاتِهِ)، أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: ثُمَّ تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ-يَعْنِي إِلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْأَنْصَارِ-. فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، أَمَّا {حَقَ تُقَاتِهِ}، يُطَاعُ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرُ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرُ فَلَا يُكْفَرُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، قَالَ: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ تَأْوِيلُ ذَلِكَ، كَمَا: حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍقَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، قَالَ: {حَقَ تُقَاتِهِ}، أَنْ يُجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ، وَلَا يَأْخُذُهُمْ فِي اللَّهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ، وَيَقُومُوا لِلَّهِ بِالْقِسْطِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَآبَائِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ. ثُمَّ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: هَلْ هِيَ مَنْسُوخَةٌ أَمْ لَا؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ مَحْكَمَةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلَيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ} أَنَّهَا لَمْ تَنْسَخْ، وَلَكِنَّ {حَقَ تُقَاتِهِ}، أَنْ تُجَاهِدَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ثُمَّ ذَكَرَ تَأْوِيلَهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ آنِفًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا، فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ قَالَ: قَالَ طَاوُسٌ قَوْلُهُ: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، يَقُولُ: إِنْ لَمْ تَتَّقُوهُ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ، نَسْخُهَا قَوْلُهُ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [سُورَةُ التَّغَابُنِ: 16].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} ثُمَّ أَنْـزَلَ التَّخْفِيفَ وَالْيُسْرَ، وَعَادَ بِعَائِدَتِهِ وَرَحِمَتْهُ عَلَى مَا يَعْلَمُ مِنْ ضَعْفِ خَلْقِهِ فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فِيهَا تَخْفِيفٌ وَعَافِيَةٌ وَيُسْرٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ الْأَنْمَاطِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، قَالَ: نَسَخَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي [التَّغَابُنِ]: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا}، وَعَلَيْهَا بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِيمَا اسْتَطَاعُوا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: لَمَّا نَـزَلَتْ: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، ثُمَّ نَـزَلَ بَعْدَهَا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فَنَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الَّتِي فِي [آلِ عِمْرَانَ]. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، فَلَمْ يُطِقِ النَّاسُ هَذَا، فَنَسَخَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَ تُقَاتِهِ}، قَالَ: جَاءَ أَمْرٌ شَدِيدٌ! قَالُوا: وَمَنْ يَعْرِفُ قَدْرَ هَذَا أَوْ يَبْلُغُهُ؟ فَلَمَّا عَرَفَ أَنَّهُ قَدِ اشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، نَسَخَهَا عَنْهُمْ، وَجَاءَ بِهَذِهِ الْأُخْرَى فَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} فَنَسَخَهَا. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، فَإِنَّ تَأْوِيلَهُ كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حُذَيْفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شِبْلٌ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ طَاوُسٍ: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، قَالَ: عَلَى الْإِسْلَامِ، وَعَلَى حُرْمَةِ الْإِسْلَامِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: وَتَعَلَّقُوا بِأَسْبَابِ اللَّهِ جَمِيعًا. يُرِيدُ بِذَلِكَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَتَمَسَّكُوا بِدِينِ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَكُمْ بِهِ، وَعَهْدِهِ الَّذِي عَهِدَهُ إِلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ إِلَيْكُمْ، مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى كَلِمَةِ الْحَقِّ، وَالتَّسْلِيمِ لِأَمْرِ اللَّهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ عَلَى مَعْنَى “الِاعْتِصَامِ “ وَأَمَّا (الْحَبْلُ)، فَإِنَّهُ السَّبَبُ الَّذِي يُوصَلُ بِهِ إِلَى الْبُغْيَةِ وَالْحَاجَةِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْأَمَانُ (حَبْلًا)، لِأَنَّهُ سَبَبٌ يُوصَلُ بِهِ إِلَى زَوَالِ الْخَوْفِ، وَالنَّجَاةِ مِنَ الْجَزَعِ وَالذُّعْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ: وَإِذَا تُجَوِّزُهَـا حِبَـالُ قَبِيلَـةٍ *** أَخَـذَتْ مِـنَ الْأُخْـرَى إِلَيْـكَ حِبَالَهَـا وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ} [سُورَةُ آلِ عِمْرَانَ: 112] وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، قَالَ: الْجَمَاعَةُ. حَدَّثَنَا الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَوْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، عَنِ الْعَوَّامِ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، قَالَ: حَبْلُ اللَّهِ، الْجَمَاعَةُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ الْقُرْآنَ وَالْعَهْدَ الَّذِي عَهِدَ فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، حَبْلُ اللَّهِ الْمَتِينُ الَّذِي أَمَرَ أَنْ يُعْتَصَمَ بِهِ: هَذَا الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} قَالَ: بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ شَقِيقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ الصِّرَاطَ مُحْتَضَرٌ تَحْضُرُهُ الشَّيَاطِينُ، يُنَادُونَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، هَلُمَّ هَذَا الطَّرِيقُ! لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، . فَاعْتَصَمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ، فَإِنَّ حَبْلَ اللَّهِ هُوَ كِتَابُ اللَّهِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ أَسْبَاطٍ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، أَمَّا (حَبْلُ اللَّهِ)، فَكِتَابُ اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: {بِحَبْلِ اللَّهِ}، بِعَهْدِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ، عَنِ ابْنِ جُرَيجٍ، عَنْ عَطَاءٍ: {بِحَبْلِ اللَّهِ}، قَالَ: الْعَهْدُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ} قَالَ: حَبْلُ اللَّهِ: الْقُرْآنُ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو زُهَيْرٍ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، قَالَ: الْقُرْآنُ. حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ أَبِي سُلَيْمَانَ الْعَرْزَمِيِّ، عَنْ عَطِيَّةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كِتَابُ اللَّهِ، هُوَ حَبْلُ اللَّهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْض). وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ هُوَ إِخْلَاصُ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، يَقُولُ: اعْتَصَمُوا بِالْإِخْلَاصِ لِلَّهِ وَحْدَهُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}، قَالَ: الْحَبْلُ، الْإِسْلَامُ. وَقَرَأَ {وَلَا تَفَرَّقُوا}.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَفَرَّقُوا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَلَا تَفَرَّقُوا}، وَلَا تَتَفَرَّقُوا عَنْ دِينِ اللَّهِ وَعَهْدِهِ الَّذِي عُهِدَ إِلَيْكُمْ فِي كِتَابِهِ، مِنَ الِائْتِلَافِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى طَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِانْتِهَاءِ إِلَى أَمْرِهِ. كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: {وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَرِهَ لَكُمُ الْفُرْقَةَ، وَقَدَّمَ إِلَيْكُمْ فِيهَا، وَحَذَّرَكُمُوهَا، وَنَهَاكُمْ عَنْهَا، وَرَضِيَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَالْأُلْفَةَ وَالْجَمَاعَةُ، فَارْضَوْا لِأَنْفُسِكُمْ مَا رِضَيَ اللَّهُ لَكُمْ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ، وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبَى الْعَالِيَةِ: {وَلَا تَفَرَّقُوا}، لَا تُعَادَوْا عَلَيْهِ، يَقُولُ: عَلَى الْإِخْلَاصِ لِلَّهِ، وَكُونُوا عَلَيْهِ إِخْوَانًا. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ: أَنِ الْأَوْزَاعِيَّ حَدَّثَهُ، أَنَّ يَزِيدَ الرَّقَاشِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ أُمَّتِي سَتَفْتَرِقُ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً. قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا هَذِهِ الْوَاحِدَةُ؟ قَالَ: فَقَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: الْجَمَاعَةُ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}. حَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ أَبِي عُمَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْأَوْزَاعِيُّ يُحَدِّثُ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنِ ابْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ الْمَدَنِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّهُ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، وَإِنَّ مَا تَكْرَهُونَ فِي الْجَمَاعَةِ وَالطَّاعَةِ، هُوَ خَيْرٌ مِمَّا تَسْتَحِبُّونَ فِي الْفِرْقَةِ). حَدَّثَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَيَانٍ السُّكَّرِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَهُوَ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ. حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَفْصٍ الْأُبُلِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَمِيرٍ أَبُو هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مَجَالِدُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ عَامِرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ قُطْبَةَ الْمَدَنِيِّ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: عَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَإِنَّهَا حَبْلُ اللَّهِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَهُ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، وَاذْكُرُوا مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأُلْفَةِ وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى الْإِسْلَامِ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعَرَبِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}. فَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ فِي ذَلِكَ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، ثُمَّ فُسِّرَ بِقَوْلِهِ: {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، وَأَخْبَرَ بِالَّذِي كَانُوا فِيهِ قَبْلَ التَّأْلِيفِ، كَمَا تَقُولُ: (أَمْسَكَ الْحَائِطَ أَنْ يَمِيلَ). وَقَالَ بَعْضُ نَحْوِيِّيِ الْكُوفَةِ: قَوْلُهُ {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، تَابِعُ قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ مِنْهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}، غَيْرُ مُنْقَطِعٍ عَنْهُ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: وَاذْكُرُوا، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمُ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْكُمْ، حِينَ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فِي شِرْكِكُمْ، يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، عَصَبِيَّةً فِي غَيْرِ طَاعَةِ اللَّهِ وَلَا طَاعَةِ رَسُولِهِ، فَأَلَّفَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ، فَجُعِلَ بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ إِخْوَانًا بَعْدَ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً تَتَوَاصَلُونَ بِأُلْفَةِ الْإِسْلَامِ وَاجْتِمَاعِ كَلِمَتِكُمْ عَلَيْهِ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، كُنْتُمْ تَذَّابَحُونَ فِيهَا، يَأْكُلُ شَدِيدُكُمْ ضَعِيفَكُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَآخَى بِهِ بَيْنَكُمْ، وَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ. أَمَا وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِنَّ الْأُلْفَةَ لِرَحْمَةٌ، وَإِنَّ الْفِرْقَةَ لَعَذَابٌ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً}، يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَأْكُلُ شَدِيدُكُمْ ضَعِيفَكُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ، فَأَلَّفَ بِهِ بَيْنَكُمْ، وَجَمْعَ جَمْعَكُمْ عَلَيْهِ، وَجَعَلَكُمْ عَلَيْهِ إِخْوَانًا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَالنِّعْمَةُ الَّتِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْأَنْصَارِ الَّتِي أَمَرَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنْ يَذْكُرُوهَا، هِيَ أُلْفَةُ الْإِسْلَامِ، وَاجْتِمَاعُ كَلِمَتِهِمْ عَلَيْهَا وَالْعَدَاوَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمْ، الَّتِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} فَإِنَّهَا عَدَاوَةُ الْحُرُوبِ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْحَيَّيْنِ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، يَزْعُمُ الْعُلَمَاءُ بِأَيَّامِ الْعَرَبِ أَنَّهَا تَطَاوَلَتْ بَيْنَهُمْ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، . كَمَا: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَتِ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ عِشْرِينَ وَمِائَةَ سَنَةٍ، حَتَّى قَامَ الْإِسْلَامُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَتْ حَرْبَهُمْ بَيْنَهُمْ وَهُمْ أَخَوَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ، فَلَمْ يُسْمَعْ بِقَوْمٍ كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْحَرْبِ مَا كَانَ بَيْنَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَطْفَأَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ، وَأَلَّفَ بَيْنَهُمْ بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَكَّرَهُمْ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِذْ وَعَظَهُمْ، عَظِيمَ مَا كَانُوا فِيهِ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ مِنَ الْبَلَاءِ وَالشَّقَاءِ بِمُعَادَاةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَقَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَخَوْفِ بَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمَا صَارُوا إِلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ وَاتِّبَاعِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، مِنَ الِائْتِلَافِ وَالِاجْتِمَاعِ، وَأَمِنَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَمَصِيرُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ إِخْوَانًا، وَكَأَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا: حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ الْمَدَنِيُّ، عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ، قَالُوا: قَدِمَ سُوِيدُ بْنُ صَامِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا. قَالَ: وَكَانَ سُوِيدٌ إِنَّمَا يُسَمِّيهِ قَوْمُهُ فِيهِمِ الْكَامِلُ لِجَلَدِهِ وَشِعْرِهِ وَنَسَبِهِ وَشَرَفِهِ. قَالَ: فَتَصَدَّى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَ بِهِ، فَدَعَاهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَإِلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ سُوِيدٌ: فَلَعَلَّ الَّذِي مَعَكَ مِثْلُ الَّذِي مَعِي! قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قَالَ: مَجَلَّةُ لُقْمَانَ-يَعْنِي: حِكْمَةَ لُقْمَانَ- فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اعْرِضْهَا عَلَيَّ فَعَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لِكَلَامٌ حَسَنٌ، مَعِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا، قُرْآنٌ أَنْـزَلَهُ اللَّهُ عَلِيَّ هُدًى وَنُورٌ. قَالَ: فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ، وَدَعَاهُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُبْعِدْ مِنْهُ، وَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَقَوْلٌ حَسَنٌ! ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ، فِلَمْ يَلْبَثُ أَنْ قَتَلَتْهُ الْخَزْرَجُ. فَإِنْ كَانَ قَوْمُهُ لَيَقُولُونَ: قَدْ قُتِلَ وَهُوَ مُسْلِمٌ. وَكَانَ قَتْلُهُ قَبْلَ يَوْمِ بُعَاث). حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَصِينُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، أَحَدُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ: أَنَّ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ، أَحَدَ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ مَكَّةَ، وَمَعَهُ فِتْيَةٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ فِيهِمْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ يَلْتَمِسُونَ الْحِلْفَ مِنْ قُرَيْشٍ عَلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْخَزْرَجِ، سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَاهُمْ فَجَلَسَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ “هَلْ لَكَمَ إِلَى خَيْرٍ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ؟ “ قَالُوا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: (أَنَا رَسُولُ اللَّهِ، بَعَثَنِي إِلَى الْعِبَادِ أَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْـزَلَ عَلِيَّ الْكِتَابَ. ثُمَّ ذَكَرَ لَهُمُ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ، فَقَالَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَكَانَ غُلَامًا حَدَثًا: أَيْ قَوْمِ، هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِمَّا جِئْتُمْ لَهُ! قَالَ: فَيَأْخُذُ أَبُو الْحَيْسَرِ أَنَسُ بْنُ رَافِعٍ حَفْنَةً مِنَ الْبَطْحَاءِ، فَضَرَبَ بِهَا وَجْهَ إِيَاسِ بْنِ مُعَاذٍ، وَقَالَ: دَعْنَا مِنْكَ، فَلَعَمْرِي لَقَدْ جِئْنَا لِغَيْرِ هَذَا! قَالَ: فَصَمَتَ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ، وَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْهُمْ، وَانْصَرَفُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، وَكَانَتْ وَقْعَةُ بُعَاثٍ بَيِّنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. قَالَ. ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ إِيَاسُ بْنُ مُعَاذٍ أَنْ هَلَكَ. قَالَ: فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِظْهَارَ دِينِهِ، وَإِعْزَازَ نَبِيهٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْجَازَ مَوْعِدِهِ لَهُ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَوْسِمِ الَّذِي لَقِيَ فِيهِ النَّفَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ يَعْرِضُ نَفْسَهُ عَلَى قَبَائِلِ الْعَرَبِ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ فِي كُلِّ مَوْسِمٍ. فَبَيَّنَّا هُوَ عِنْدَ الْعَقَبَةِ، إِذْ لَقِيَ رَهْطًا مِنَ الْخَزْرَجِ أَرَادَ اللَّهُ بِهِمْ خَيْرًا). قَالَ ابْنُ حُمَيدٍ قَالَ: سَلَمَةُ قَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ؛ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالُوا: لَمَّا لَقِيَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُمْ: مِنْ أَنْتُمْ؟ قَالُوا: نَفَرٌ مِنَ الْخَزْرَجِ قَالَ: أَمِنْ مَوَالِي يَهُودَ؟ قَالُوا: نَعَمْ قَالَ: أَفَلَا تَجْلِسُونَ حَتَّى أُكَلِّمَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى!. قَالَ: فَجَلَسُوا مَعَهُ، فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِمِ الْإِسْلَامَ، وَتَلَا عَلَيْهِمِ الْقُرْآنَ. قَالَ: وَكَانَ مِمَّا صَنَعَ اللَّهُ لَهُمْ بِهِ فِي الْإِسْلَامِ، أَنَّ يَهُودَ كَانُوا مَعَهُمْ بِبِلَادِهِمْ، وَكَانُوا أَهْلَ كِتَابٍ وَعِلْمٍ، وَكَانُوا أَهْلَ شِرْكٍ، أَصْحَابَ أَوْثَانٍ، وَكَانُوا قَدْ غَزَوْهُمْ بِبِلَادِهِمْ. فَكَانُوا إِذَا كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، قَالُوا لَهُمْ: إِنَّ نَبِيًّا الْآنَ مَبْعُوثٌ قَدْ أَظَلَّ زَمَانُهُ، نَتْبَعُهُ وَنَقْتُلُكُمْ مَعَهُ قَتْلَ عَادٍ وَإِرَمَ !. فَلَمَّا كَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُولَئِكَ النَّفَرَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: يَا قَوْمُ، تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ إِنَّهُ لِلنَّبِيِّ الَّذِي تَوَعَّدُكُمْ بِهِ يَهُودُ، فَلَا يَسْبِقُنَّكُمْ إِلَيْهِ! فَأَجَابُوهُ فِيمَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ، بِأَنْ صَدَّقُوهُ وَقَبِلُوا مِنْهُ مَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْإِسْلَامِ، وَقَالُوا لَهُ: إِنَّا قَدْ تَرَكَنَا قَوْمَنَا وَلَا قَوْمَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالشَّرِّ مَا بَيْنَهُمْ، وَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْمَعَهُمْ بِكَ، وَسَنَقْدُمُ عَلَيْهِمْ فَنَدْعُوهُمْ إِلَى أَمْرِكَ، وَنَعْرِضُ عَلَيْهِمِ الَّذِي أَجَبْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الدِّينِ؛ فَإِنْ يَجْمَعْهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَلَا رَجُلَ أَعَزُّ مِنْكَ. ثُمَّ انْصَرَفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعِينَ إِلَى بِلَادِهِمْ، قَدْ آمَنُوا وَصَدَّقُوا) وَهُمْ فِيمَا ذُكِرَ لِي سِتَّةُ نَفَرٍ. قَالَ: (فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ عَلَى قَوْمِهِمْ، ذَكَرُوا لَهُمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَدَعَوْهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، حَتَّى فَشَا فِيهِمْ، فَلَمْ تَبْقَ دَارٌ مِنْ دَوْرِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا ذِكْرٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَتَّى إِذَا كَانَ الْعَامُ الْمُقْبِلُ، وَافَى الْمَوْسِمَ مِنَ الْأَنْصَارِ اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا فَلَقُوهُ بِالْعَقَبَةِ، وَهِيَ الْعَقَبَةُ الْأُولَى، فَبَايَعُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ) وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْتَرَضَ عَلَيْهِمِ الْحَرْبُ. حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ يَحْيَى قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ: أَنَّهُ (لَقِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةُ نَفَرٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَآمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ مَعَهُمْ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ بَيِّنَ قَوْمِنَا حَرْبًا، وَإِنَّا نَخَافُ إِنَّ جِئْتَ عَلَى حَالِكَ هَذِهِ أَنْ لَا يَتَهَيَّأُ الَّذِي تُرِيدُ. فَوَعَدُوهُ الْعَامَ الْمُقْبِلَ، وَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَذْهَبُ، فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يُصْلِحَ تِلْكَ الْحَرْبِ! قَالَ: فَذَهَبُوا فَفَعَلُوا، فَأَصْلَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تِلْكَ الْحَرْبَ، وَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ وَهُوَ يَوْمُ بُعَاثٍ. فَلَقُوهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ سَبْعِينَ رَجُلًا قَدْ آمَنُوا، فَأُخِذَ عَلَيْهِمِ النُّقَبَاءَ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا، فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: أَمَّا: {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً}، فَفِي حَرْبِ ابْنِ سُمَيرٍ {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ}، بِالْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو سُفْيَانَ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ بِنَحْوِهِ وَزَادَ فِيهِ: (فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَمْرِ عَائِشَة ما كَانَ، فَتَثَاوَرَ الْحَيَّانُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَوْعِدُكُمُ الْحَرَّةَ! فَخَرَجُوا إِلَيْهَا، فَنَـزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، الْآيَةَ. فَأَتَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَزَلْ يَتْلُوهَا عَلَيْهِمْ حَتَّى اعْتَنَقَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَحَتَّى إِنَّ لَهُمْ لَخَنِينًا يَعْنِي الْبُكَاء). “ وسُمَيرُ “ الَّذِي زَعَمَ السُّدِّيُّ أَنَّ قَوْلَهُ {إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً} عَنَى بِهِ حَرْبَهُ، هُوَ سُمَيرُ بْنُ زَيْدِ بْنِ مَالِكٍ، أَحَدُ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مَالِكُ بْنُ الْعَجْلَانِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ سُـمَيْرًا، أَرُى عَشِـيرَتَهُ *** قَـدْ حَـدِبُوا دُونَـهُ وَقَـدْ أَنِفُـوا إِنْ يَكُـنِ الظَّـنُّ صَـادِقِي بَبَنِـي *** النَّجَّـارِ لَـمْ يَطْعَمُـوا الَّـذِي عُلِفُـوا وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْأَنْصَارِ: أَنَّ مَبْدَأَ الْعَدَاوَةِ الَّتِي هَيَّجَتِ الْحُرُوبَ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَ قَبِيلَتَيْهَا الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ وَأَوَّلُهَا، كَانَ بِسَبَبِ قَتْلٍ مَوْلَى لِمَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ الْخَزْرَجِيِّ، يُقَالُ لَهُ: (الْحُرُّ بْنُ سُمَيرٍ) مِنْ مُزَيْنَةَ، وَكَانَ حَلِيفًا لِمَالِكِ بْنِ الْعَجْلَانِ، ثُمَّ اتَّصَلَتْ تِلْكَ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ إِلَى أَنْ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ السُّدِّيِّ: (حَرْبُ ابْنِ سُمَيرٍ). وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، فَإِنَّهُ يَعْنِي: فَأَصْبَحْتُمْ بِتَأْلِيفِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَيْنَكُمْ بِالْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ الْحَقِّ، وَالتَّعَاوُنِ عَلَى نُصْرَةِ أَهْلِ الْإِيمَانِ، وَالتَّآزُرِ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ، إِخْوَانًا مُتَصَادِقِينَ، لَا ضَغَائِنَ بَيْنَكُمْ وَلَا تَحَاسَدَ، كَمَا: حَدَّثَنِي بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}، وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتُمْ؟ قَالَ: أَصْبَحْنَا بِنِعْمَةِ اللَّهِ إِخْوَانًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}، وَكُنْتُمْ، يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، عَلَى حَرْفِ حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ. وَإِنَّمَا ذَلِكَ مَثَلٌ لِكُفْرِهِمِ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَهْدِيَهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَكُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ جَهَنَّمَ بِكُفْرِكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُنْعِمَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بِالْإِسْلَامِ، فَتَصِيرُوا بِائْتِلَافِكُمْ عَلَيْهِ إِخْوَانًا، لَيْسَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْوُقُوعِ فِيهَا إِلَّا أَنْ تَمُوتُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْ كُفْرِكُمْ، فَتَكُونُوا مِنَ الْخَالِدِينَ فِيهَا، فَأَنْقَذَكُمُ اللَّهُ مِنْهَا بِالْإِيمَانِ الَّذِي هَدَاكُمْ لَهُ. وَ (شَفَا الْحُفْرَةِ)، طَرَفُهَا وَحَرْفُهَا، مِثْلُ “شَفَا الرَّكِيَّةِ وَالْبِئْرِ “؛ وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: نَحْـنُ حَفَرْنَـا لِلْحَجِـيِجِ سَـجْلَهْ *** نَابِتَـةٌ فَـوْقَ شَـفَاهَا بَقْلَـةْ يَعْنِي: فَوْقَ حَرْفِهَا. يُقَالُ: (هَذَا شَفًّا هَذِهِ الرَّكِيَّةِ) مَقْصُورٌ (وَهَمَا شَفَوَاهَا) وَقَالَ: {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، يَعْنِي فَأَنْقَذَكُمْ مِنَ الْحُفْرَةِ، فَرَدَّ الْخَبَرَ إِلَى (الْحُفْرَةِ)، وَقَدِ ابْتَدَأَ الْخَبَرَ عَنْ (الشَّفَا)، لِأَنَّ (الشَّفَا) مِنْ (الْحُفْرَةِ). فَجَازِ ذَلِكَ، إِذْ كَانَ الْخَبَرُ عَنْ “الشَّفَا “ عَلَى السَّبِيلِ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ خَبَرًا عَنْ “الْحُفْرَةِ)، كَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ عَطِيَّةَ: رَأَتْ مَـرَّ السِّـنِينَ أَخَـذْنَ مِنِّـي *** كَمَـا أَخَـذَ السِّـرَارُ مِـنَ الْهِـلَالِ فَذَكَرَ: (مَرَّ السِّنِينَ)، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَبَرِ عَنْ (السِّنِينَ)، وَكَمَا قَالَ الْعَجَاجُ: طُـولُ اللَّيَـالِي أَسْـرَعَتْ فِـي نَقْضِي *** طَـوَيْنَ طُـولِي وَطَـوَيْنَ عَـرْضِي وَقَدْ بَيَّنْتُ الْعِلَّةَ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ}، كَانَ هَذَا الْحَيُّ مِنَ الْعَرَبِ أَذَلَّ النَّاسَ ذُلًّا وَأَشْقَاهُ عَيْشًا، وَأَبْيَنَهُ ضَلَالَةً، وَأَعْرَاهُ جُلُودًا، وَأَجْوَعَهُ بُطُونًا، مَكْعُومِينَ عَلَى رَأْسِ حَجَرٍ بَيْنَ الْأَسَدَيْنِ فَارِسٌ وَالرُّومُ، لَا وَاللَّهِ مَا فِي بِلَادِهِمْ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَيْءٍ يُحْسَدُونَ عَلَيْهِ. مَنْ عَاشَ مِنْهُمْ عَاشَ شَقِيًّا، وَمَنْ مَاتَ رُدِّيَ فِي النَّارِ، يُؤَكِّلُونَ وَلَا يَأْكُلُونَ، وَاللَّهِ مَا نَعْلَمُ قَبَيْلًا يَوْمَئِذٍ مِنْ حَاضِرِ الْأَرْضِ، كَانُوا فِيهَا أَصْغَرَ حَظًّا، وَأَدَقَّ فِيهَا شَأْنًا مِنْهُمْ، حَتَّى جَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِالْإِسْلَامِ، فَوَرَّثَكُمْ بِهِ الْكُتَّابَ، وَأَحَلَّ لَكُمْ بِهِ دَارَ الْجِهَادِ، وَوَضْعَ لَكُمْ بِهِ مِنَ الرِّزْقِ، وَجَعَلَكُمْ بِهِ مُلُوكًا عَلَى رِقَابِ النَّاسِ. وَبِالْإِسْلَامِ أَعْطَى اللَّهُ مَا رَأَيْتُمْ، فَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، فَإِنَّ رَبَّكُمْ مُنْعِمٌ يُحِبُّ الشَّاكِرِينَ، وَإِنَّ أَهْلَ الشُّكْرِ فِي مَزِيدِ اللَّهِ، فَتَعَالَى رَبُّنَا وَتَبَارَكَ. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ}، يَقُولُ: كُنْتُمْ عَلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ، {فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، مِنْ ذَلِكَ، وَهَدَاكُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}، بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُنْتُمْ عَلَى طَرَفِ النَّارِ، مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ أُوبِقَ فِي النَّارِ، فَبَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْحُفْرَةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ حَيٍّ: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} قَالَ: عَصَبِيَّةٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِقَوْلِهِ تَعَالَى {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [103] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ)، كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ رَبُّكُمْ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، مِنْ غِلِّ الْيَهُودِ الَّذِي يُضْمِرُونَهُ لَكُمْ، وَغِشِّهِمْ لَكُمْ، وَأَمْرُهُ إِيَّاكُمْ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ فِيهَا، وَنَهْيُهُ لَكُمْ عَمَّا نَهَاكُمْ عَنْهُ، وَالْحَالُ الَّتِي كُنْتُمْ عَلَيْهَا فِي جَاهِلِيَّتِكُمْ، وَالَّتِي صِرْتُمْ إِلَيْهَا فِي إِسْلَامِكُمْ، مُعَرِّفَكُمْ فِي كُلِّ ذَلِكَ مَوَاقِعَ نِعْمَةِ قِبَلَكُمْ، وَصَنَائِعِهِ لَدَيْكُمْ، فَكَذَلِكَ يُبَيِّنُ سَائِرَ حُجَجِهِ لَكُمْ فِي تَنْـزِيلِهِ وَعَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)، يَعْنِي: لِتَهْتَدُوا إِلَى سَبِيلِ الرَّشَادِ وَتَسْلُكُوهَا، فَلَا تَضِلُّوا عَنْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِوَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [104] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ (أُمَّةٌ)، يَقُولُ: جَمَاعَةٌ (يَدْعُونَ) النَّاسَ (إِلَى الْخَيْرِ)، يَعْنِي إِلَى الْإِسْلَامِ وَشَرَائِعِهِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ}، يَقُولُ: يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِاتِّبَاعِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}: يَعْنِي وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَالتَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِجِهَادِهِمْ بِالْأَيْدِي وَالْجَوَارِحِ، حَتَّى يَنْقَادُوا لَكُمْ بِالطَّاعَةِ. وَقَوْلُهُ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، يَعْنِي: الْمُنْجِحُونَ عِنْدَ اللَّهِ الْبَاقُونَ فِي جَنَّاتِهِ وَنَعِيمِهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى مَعْنَى (الْإِفْلَاحِ) فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ الْقَارِئُ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ: أَنَّهُ سَمِعَ صُبَيْحًا قَالَ: سَمِعْتُ عُثْمَانَ يَقْرَأُ: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللَّهَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ). حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ حَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَينَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنُ الزُّبَيْرِ يَقْرَأُ، فَذَكَرَ مِثْلَ قِرَاءَةِ عُثْمَانَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا قَبْلُ سَوَاءً. حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْبِرٌ، عَنِ الضَّحَّاكِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، قَالَ: هُمْ خَاصَّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الرُّوَاةِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [105] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَلَا تَكُونُوا}، يَا مَعْشَرَ الَّذِينَ آمَنُوا {كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا} مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ (وَاخْتَلَفُوا) فِي دِينِ اللَّهِ وَأَمْرِهِ وَنَهْيهِ {مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، مِنْ حُجَجِ اللَّهِ، فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَعَلِمُوا الْحَقَّ فِيهِ فَتَعَمَّدُوا خِلَافَهُ، وَخَالَفُوا أَمْرَ اللَّهِ، وَنَقَضُوا عَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ جَرَاءَةً عَلَى اللَّهِ {وَأُولَئِكَ لَهُمْ}، يَعْنِي: وَلِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَفَرَّقُوا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ (عَذَابٌ) مِنْ عِنْدِ اللَّهِ (عَظِيمٌ)، يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: فَلَا تَتَفَرَّقُوا، يَا مَعْشَرَ الْمُؤْمِنِينَ، فِي دِينِكُمْ تَفَرُّقَ هَؤُلَاءِ فِي دِينِهِمْ، وَلَا تَفْعَلُوا فِعْلَهُمْ، وَتَسْتَنُّوا فِي دِينِكُمْ بِسَنَتِهِمْ، فَيَكُونُ لَكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ الْعَظِيمِ مِثْلُ الَّذِي لَهُمْ، كَمَا: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ}، قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، نَهَى اللَّهُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ أَنْ يَتَفَرَّقُوا وَيَخْتَلِفُوا، كَمَا تَفْرُقُ وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}. حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ قَالَ: حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} وَنَحْوَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ أَمْرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ، فَنَهَاهُمْ عَنِ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، قَالَ: هُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَوَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِذَلِكَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي يَوْمٍ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فَإِنَّ مَعْنَاهُ: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ؟ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. وَلَا بُدَّ لِـ “أَمَّا “ مِنْ جَوَابٍ بِالْفَاءِ، فَلَمَّا أُسْقِطَ الْجَوَابُ سَقَطَتْ “الْفَاءُ “ مَعَهُ. وَإِنَّمَا جَازَ تَرْكُ ذِكْرِ “فَيُقَالُ “ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، فَإِنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ اخْتَلَفُوا فِيمَنْ عُنِيَ بِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ أَهْلُ قِبْلَتِنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، الْآيَةَ، لَقَدْ كَفَرَ أَقْوَامٌ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ كَمَا تَسْمَعُونَ، وَلَقَدْ ذُكِرَ لَنَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لِيَرِدَنَّ عَلَى الْحَوْضِ مِمَّنْ صَحِبَنِي أَقْوَامٌ، حَتَّى إِذَا رُفِعُوا إِلَيَّ وَرَأَيْتُهُمْ، اخْتُلِجُوا دُونِي، فَلْأَقُولَنَّ: رَبِّ! أَصْحَابِي! أَصْحَابِي! فَلْيُقَالَنَّ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَك) وَقَوْلُهُ: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}، هَؤُلَاءِ أَهِلُ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْوَفَاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، فَهَذَا مَنْ كَفَرَ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ حِينَ اقْتَتَلُوا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ وَالرَّبِيعِ بْنِ صُبَيْحٍ، عَنْ أَبِي مُجَالِدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، قَالَ: هُمْ الْخَوَارِجُ. وَقَالَ آخَرُونَ: عَنَى بِذَلِكَ: كُلُّ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ الَّذِي آمَنَ، حِينَ أَخَذَ اللَّهُ مِنْ صُلْبِ آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا بَيَّنَ فِي كِتَابِهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْهَيْثَمِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، فِي قَوْلِهِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}، قَالَ: صَارُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرِيقَيْنِ، فَقَالَ لِمَنِ اسْوَدَّ وَجْهُهُ، وَعَيَّرَهُمْ. {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، قَالَ: هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الِاخْتِلَافِ فِي زَمَانِ آدَمَ، حِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ عَهْدَهُمْ وَمِيثَاقَهُمْ، وَأَقَرُّوا كُلُّهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ، وَفَطَرَهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً مُسْلِمِينَ، يَقُولُ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، يَقُولُ: بَعْدَ ذَلِكَ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِ آدَمَ. وَقَالَ فِي الْآخَرِينَ: الَّذِينَ اسْتَقَامُوا عَلَى إِيمَانِهِمْ ذَلِكَ، فَأَخْلَصُوا لَهُ الدِّينَ وَالْعَمَلَ، فَبَيَّضَ اللَّهُ وُجُوهَهُمْ، وَأَدْخَلَهُمْ فِي رِضْوَانِهِ وَجَنَتْهُ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْالَّذِينَ عَنَوْا بِقَوْلِهِ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، الْمُنَافِقُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ، عَنْ عَبَّادٍ، عَنِ الْحَسَنِ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ، كَانُوا أَعْطَوْا كَلِمَةَ الْإِيمَانِ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَأَنْكَرُوهَا بِقُلُوبِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ الَّتِي ذَكَّرْنَاهَا فِي ذَلِكَ بِالصَّوَابِ، الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَّرْنَاهُ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ عَنَى بِذَلِكَ جَمِيعَ الْكُفَّارِ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ الَّذِي يُوَبَّخُونَ عَلَى ارْتِدَادِهِمْ عَنْهُ، هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي أَقَرُّوا بِهِ يَوْمَ قِيلَ لَهُمْ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} [سُورَةُ الْأَعْرَافِ: 172]. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَعَلَ جَمِيعَأَهْلِ الْآخِرَةِ فَرِيقَيْنِ: أَحَدُهُمَا سُودًا وُجُوهُهُ، وَالْآخِرُ بَيْضًا وُجُوهُهُ. فَمَعْلُومٌ-إِذْ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ إِلَّا هَذَانَ الْفَرِيقَانِ- أَنَّ جَمِيعَ الْكُفَّارِ دَاخِلُونَ فِي فَرِيقِ مِنْ سُوِّدَ وَجْهُهُ، وَأَنَّ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ دَاخِلُونَ فِي فَرِيقِ مِنْ بُيِّضَ وَجْهُهُ. فَلَا وَجْهَ إِذًا لِقَوْلِ قَائِلٍ: (عَنَى بِقَوْلِهِ: {أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}، بَعْضَ الْكُفَّارِ دُونَ بَعْضٍ)، وَقَدْ عَمَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ الْخَبَرَ عَنْهُمْ جَمِيعِهِمْ، وَإِذَا دَخَلَ جَمِيعُهُمْ فِي ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ لِجَمِيعِهِمْ حَالَةً آمَنُوا فِيهَا ثُمَّ ارْتَدَوْا كَافِرِينَ بَعْدُ إِلَّا حَالَةً وَاحِدَةً، كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهَا الْمُرَادَّةُ بِذَلِكَ. فَتَأْوِيلُ الْآيَةِ إِذًا: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي يَوْمٍ تَبْيَضُّ وُجُوهُ قَوْمٍ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ آخَرِينَ. فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ، فَيُقَالُ: أَجَحِدْتُمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ وَعَهْدَهُ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقْتُمُوهُ عَلَيْهِ، بِأَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَتُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ- بَعْدَ إِيمَانِكُمْ يَعْنِي: بَعْدَ تَصْدِيقِكُمْ بِهِ؟ {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، يَقُولُ: بِمَا كُنْتُمْ تَجْحَدُونَ فِي الدُّنْيَا مَا كَانَ اللَّهُ قَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ بِالْإِقْرَارِ بِهِ وَالتَّصْدِيقِ {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ}. مِمَّنْ ثَبَتَ عَلَى عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ، فَلَمْ يُبَدِّلْ دِينَهُ، وَلَمْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالتَّوْحِيدِ، وَالشَّهَادَةِ لِرَبِّهِ بِالْأُلُوهَةِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرَهُ {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ}، يَقُولُ: فَهُمْ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ، يَعْنِي: فِي جَنَّتِهِ وَنَعِيمِهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لِأَهْلِهَا فِيهَا {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}، أَيْ: بَاقُونَ فِيهَا أَبَدًا بِغَيْرِ نِهَايَةٍ وَلَا غَايَةٍ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ} [108] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}، هَذِهِ آيَاتُ اللَّهِ. وَقَدْ بَيَّنَّا كَيْفَ وَضَعَتِ الْعَرَبُ (تِلْكَ) وَ(ذَلِكَ) مَكَانَ (هَذَا) وَ(هَذِهِ)، فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ. وَقَوْلُهُ: {آيَاتِ اللَّهِ}، يَعْنِي: مَوَاعِظُ اللَّهِ وَعِبَرُهُ وَحُجَجُهُ. {نَتْلُوهَا عَلَيْكَ}، نَقْرَؤُهَا عَلَيْكَ وَنَقُصُّهَا (بِالْحُقِّ)، يَعْنِي بِالصِّدْقِ وَالْيَقِينِ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِقَوْلِهِ: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ}، هَذِهِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرَ فِيهَا أُمُورَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْصَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأُمُورَ يَهُودِ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا هُوَ فَاعِلٌ بِأَهْلِ الْوَفَاءِ بِعَهْدِهِ، وَبِالْمُبَدِّلِينَ دِينَهُ، وَالنَّاقِضِينَ عَهْدَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَزَّ وَجَلَّ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَتْلُو ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ عَاقَبَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مُعَاقِبُهُ [بِهِ]: مِنْ تَسْوِيدِ وَجْهِهِ، وَتَخْلِيدِهِ فِي أَلِيمِ عَذَابِهِ وَعَظِيمِ عِقَابِهِ وَمَنْ جَازَاهُ مِنْهُمْ بِمَا جَازَاهُ: مِنْ تَبْيِيضِ وَجْهِهِ وَتَكْرِيمِهِ وَتَشْرِيفٍ مَنْـزِلَتِهِ لَدَيْهِ، بِتَخْلِيدِهِ فِي دَائِمِ نَعِيمِهِ، فَبِغَيْرِ ظُلْمٍ مِنْهُ لِفَرِيقٍ مِنْهُمْ، بَلْ بِحَقٍّ اسْتَوْجَبُوهُ، وَأَعْمَالٍ لَهُمْ سَلَفَتْ، جَازَاهُمْ عَلَيْهَا، فَقَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ}، يَعْنِي بِذَلِكَ: وَلَيْسَ اللَّهُ يَا مُحَمَّدُ بِتَسْوِيدِ وُجُوهِ هَؤُلَاءِ، وَإِذَاقَتِهِمِ الْعَذَابَ الْعَظِيمَ، وَتَبْيِيضِ وُجُوهِ هَؤُلَاءِ وَتَنْعِيمِهِ إِيَّاهُمْ فِي جَنَّتِهِ طَالِبًا وَضْعَ شَيْءٍ مِمَّا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ الَّذِي هُوَ مَوْضِعُهُ إِعْلَامًا بِذَلِكَ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَنْ يَصْلُحَ فِي حِكْمَتِهِ بِخَلْقِهِ غَيْرَ مَا وَعَدَ أَهْلَ طَاعَتِهِ وَالْإِيمَانِ بِهِ، وَغَيْرَ مَا أَوْعَدَ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ وَالْكُفْرِ بِهِ وَإِنْذَارًا مِنْهُ هَؤُلَاءِ وَتَبْشِيرًا مِنْهُ هَؤُلَاءِ.
|